بينما إنطلق الشعب الجزائرى مبتهجا يحتفل بقرار الرئيس بوتفليقة عدم الترشح لولاية خامسة تسارعت وتيرة القلق من بعض المراقبين المتعاطفين معهم.. ربما كان لوقع القلق والحذر والتخوف القدر الأكبر فى قلوب مصرية تعاطفت مع الثورة وأشفقت عليها من نهاية كتلكالتى آلت إليها ثورة يناير.
الفرحة التى عمت الوجوه.. هتافات النصر التى إنطلقت.. المسيرات الصاخبة.. الأعلام المرفوعة بغبطة ونشوة وشموخ.. الإحساس بنسائم الحرية ينعش النفوس الحزينة ويلهب فيها الحماس.. العيون المستبشرة بغد أفضل ووطن أكثر تقدما ورفعة وسمو.. تماما مثل حالنا يوم تنحى مبارك وماظنناه نجاحا فى إسقاط النظام.. أسكرتنا الفرحة فتركنا الميدان قبل أن يكتمل الإنتصار ويتحقق الحلم.. وحدث ماحدث حتى وصلنا إلى مانحن عليه.
نتباكى على ثورة مجهضة ونلملم اشلاء حلم بات عصيا على التحقق لسنوات لايعلمها إلا الله.. ثورتنا المغدور بها لأسباب بعضها من صنع أيدينا جعلتنا نكاد نصرخ ونحن نتابع ثوار الجزائر، لاتتركوا الميدان.. هل سمعونا؟ بالقطع لا، لكن من المؤكد أن تجربتنا كانت حاضرة بكل إنتصارها وإنكسارها.. جموحها وكبوتها وتعثرها وإنسحاقها، لم يتركوا الميدان.. ليس فقط بالطبع لهذا السبب وإنما الأهم ليقينهم أن ما أعلنه الرئيس بوتفليقة من قرارات لم تكن لتلبى سقف مطالبهم الذى وصل حد المطالبة برحيل بوتفليقة وإسقاط النظام.. فلم تخرج قرارته بتأجيل الإنتخابات و بعدم ترشحه لولاية خامسة وتغيير الحكومة وتشكيل هيئة وطنية تشرف على الفترة الإنتقالية يتم فيها إعداد دستور جديد وإستفتاء الشعب عليه، لم تخرج تلك القرارت عن كونها ليس فقط مجرد مسكنات لإمتصاص غضب الشارع وإنما مؤامرة ومناورة وإلتفاف على مطالب الشعب، هكذا تعامل معها المتظاهرون ورفضتها القوى المعارضة واعتبرها الفقهاء الدستوريين باطلة، وتمهد لرئيس فعلى برتبة ديكتاتور، كما وصفها أحدهم.. تمسك الشارع بمطالبه في رحيل النظام وعدم ترشح بوتفليقة، فغدا بالاخير يناور مدعيا عدم الترشح فى حين يظل متمسكا بمقاليد حكم البلاد لحين إجراء إنتخابات جديدة.. مناورة أجاد صياغتها من يحكمون البلاد خلف الكواليس.
هم عصابة، كما يصفهم الجزائريون، هى الأكثر خطرا وفسادا وتسلطا.. هى التى تحكم وتهيمن تعزل وتعين تبعد وتقرب وتملى قراراتها وسياستها وتوجهاتها، لتظهر فى النهاية ممهورة بإسم الرئيس.. بوتفليقة الغائب الحاضر يجب أن يظل على تلك الحالة لتضمن لتلك العصابة "كما وصفها الجزائريون" مكانتها ونفوذها وإستمرار مصالحها.. يدرك الشعب ذلك الخطر ويدرك أن معركته ليست بالهينة، وندرك ونحن على بعد أميال حجم الخطر وكم المؤامرات التى يمكن أن تحاك، وكم الخطط التى يمكن أن تدبر، وكم الصفقات التى يمكن أن تعقد.
ربما يحدونا الأمل فى يقظة أشقائنا فى الجزائر أن يتجاوزوا خديعة قوى الإسلام السياسى، فسنوات الحرب العجاف التى مرت بهم، تلك العشرية السوداء التى دارت فيها حرب ضروس راح ضحيتها مئات الألاف من الجزائريين، وحمامات الدم التى سببتها وشاركت فيها هذه القوى تجعل من معاودة تكرارها بالأمر الصعب.. ليبدو الخطر الأعظم الذى يواجه الشعب، ويحول دون تحقيق حلمه فى الخلاص من النظام هم مراكز القوى التى تحكم من وراء الكواليس.. تلك المؤسسات المستفيدة من بقاء النظاام.. مثلما الحال فى كل أنظمتنا العربية.. شبكة إخطبوطية متغلغلة فى كل مفاصل الدولة.. دائرة مغلقة على اصحاب مصالح سياسية إقتصادية، أو الإثنين معا، لاتتخلى بسهولة عن تلك المصالح.
تجيد فن المراوغة وتحترف المناورة، ربما تنحنى قليلا أمام العاصفة وتتخفى وراء ألف قناع، وأحيانا تضطر للتضحية برؤوس وقامات حتى يكتب لجسدها البقاء، فتحميه من الإندثار والإنسحاق. وما أن تنتهى العاصفة حتى تظهر من جديد ربما بوجوه أخرى وأقنعة جديدة، لكن سرعان ما تنكشف حقيقتها، وتظهر بسفور وتبجح واستقواء، لتبدأ جولة أخرى ومعركة جديدة تخرج فيها ضحاياها ليطالبوا بإسقاط راسها. يعلو الغضب فتستجيب، وتسقط الراس ليحل محله رأس جديد ويستمر الصراع.
--------------------
بقلم: هالة فؤاد